ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ)[قريش:2] وَالإِيْلافُ: مِنَ الإِلْفِ: وَهُوَ الاِعْتِيَادُ عَلَى الشَّيءِ، أَو مِنَ الائْتِلَافِ: وَهُوَ الاِجْتِمَاع. وَالمَعْنَى: أَنَّ اللهَ أَهْلَكَ أَهْلَ الْفِيلِ؛ لِتَبْقَى قُرَيْشٌ مُجْتَمِعَةٌ مُتَآلِفَة، وَيَبْقَى لَهُمْ مَا أَلِفُوا وَاعْتَادُوا مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.
ولَوْ تَمَّ لأَصْحَابِ الْفِيلِ مَا أَرَادُوا، لَتَرَكَ النَّاسُ تَعْظِيمَهُمْ، وتَقَطَّعُوا فِي الْأَرْضِ أُمَمًا، وتَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُمْ، وَتَمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّق.
وَلِهَذَا أَمَرَهُمُ اللهُ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَة؛ فَقَالَ تَعَالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ)[قريش:3]؛ أَيْ فَلْيُوَحِّدُوْهُ بِالْعِبَادَةِ؛ كَمَا صَرَفَ عَنْهُمْ شَرًّا مُحَتَّمًا، وجَعَلَ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا، وَبَيْتًا مُحَرَّمًا.
وَأَضَافَ اللهُ رُبُوْبِيَّتَهُ إِلَى البَيْتِ الحَرَام؛ مِنْ بَابِ التَّشْرِيْفِ والتَّعْظِيْم، وَإِلَّا فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيء، (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[النمل:91]، ثُمَّ قَالَ تعالى: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش:4] وَهَذَا بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ حَيْثُ قَالَ: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ)[البقرة:126]. والإِنْسَانُ لا يَطْمَئِنُّ ولا يَسْعَدُ؛ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ: إِذْ لَا عَيْشَ مَعَ الْجُوعِ، وَلَا أَمْنَ مَعَ الْخَوْفِ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا"(رواه الترمذي، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ).