الأخلاقُ في حياةِ الإنسان نقطةُ ارتِكازٍ تنطلِقُ منها تصرُّفاتُه القوليَّة والعمليَّة،
وبها يحصُلُ التوازُن في التعامُل مع الآخرين، والسَّير في
مهامِهِ اختِلاف طِباعِهم وأمزِجَتهم.
وإن مُراغمةَ المرء حياتَه مع الناس بلا أخلاقٍ، ما هي إلا عبثٌ لامسؤول،
يهدِمُ جُسورَ الثقة، وحُسن الظنِّ، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، ويقتَلِعُ
جُذورَ المودَّة والتآلُف مِن الفؤاد، فيستبدِلُ الفؤادَ البلقَع بالفُؤاد المُربِع، فلا
وُصولَ بعد ذلك إلى قلوبِ الناس المُؤدِّية إلى عقولِهم.
فما ثمَّة حينئذٍ إلا الوَحشة، وسُوء الظنِّ، وتقاذُف التُّهم بمضارِبِ
وحشِيِّ الألفاظ، وأسِنَّة الشَّيطنة، وجَعل الصغيرة كبيرةً، والحَبَّة قُبَّةً.
وإذا رأيتُم مثلَ ذلكم في فئةٍ ما، ففتِّشُوا عن أخلاقِهم.
قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
( ليس المُؤمنُ بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحِش، ولا البذِيء )؛
رواه الترمذي وغيرُه.
إن عقلَ المرء وحكمتَه كفِيلان بجَعله في مقامٍ سليمٍ مُعتدلٍ يميزُ به
بين ما يَزِين وما يشِين، وما يجبُ تقديمُه وما يجبُ تأخيرُه، وما لا
ينبَغي أن يُعطَى أكبرَ مِن حجمِه، وما لا ينبَغي أن يُهوَّن دُون مقامِه.
وجِماعُ ذلكم كلِّه في أن يُنزِلَ الأمورَ منازِلَها، ويُعطِيَ كلَّ ذي
حقٍّ حقَّه، فإنه لم يفعَل ذلكم فهو إما بليدُ الإحساس، وإما ذو
استِخفافٍ بالأمور، ولا شكَّ أن كِلا السببَين مِن السُّوء بمكانٍ.
عيرَ أن الاستِخفافَ بالأمور هو أنكَرُ المُنكَرَين، وأسوءُ السَّوأتَين،
وهو - أي: الاستِخفاف - إن كان عن جهلٍ فهو مُصيبة،
وإن كان عن علمٍ فالمُصيبةُ أعظم.
وإنما يَعنِينا في هذه العُجالة هو الاستِخفافُ الذي يقعُ عن علمٍ؛
لأنه وبالٌ على صاحبِه مِن جهتَين: