يحكي أنّ المسلمين كانوا يعانون فاقة مادية في زمن قطز وذلك أثناء استعدادهم لحرب التتار، ولتعويض العجز الحاصل في بيت مال المسلمين أراد قطز أن يقترض المال من التجار ويفرض على كل قادر من العامة دينارا واحدا، وبعث إلى شيخ العلماء والقضاة في مصر وقتها العز بن عبد السلام يستفتيه ويطلب عونه في تشجيع الشعب على الالتزام، فأفتاه بجواز ذلك ولكن بشرط أن يبيع قطز وقادة جيشه وخاصته وحاشيته كل مقتنياتهم النفيسة وحلي نسائهم ويعطوا قيمتها لبيت المال، وكان هذا الأسلوب العادل في التسوية بين أفراد الشعب حكاما ومحكومين وقادة وعامة دون ظلم ولا عدوان ودون تحميل الشعب لوحده مؤونة العجز بينما القادة والخاصة يرتعون في النعم والعطايا، من أسباب نصر الله لهم في معركة عين جالوت، التي قطعت شأفة التتار في بلاد المسلمين وردّتهم إلى ديارهم خزايا وخائبين، وكان هذا درسا واضحا على أنّ العدل بين الرعية أساس الملك والنصر، بينما الغبن وظلم الخاصة للعامة مصدر كل شر وهزيمة، ومن لم يستطع أن يقاوم سلطان المال وهوى الاستئثار لا يجب أن يتقلّد منصبا عاما أو يتحكّم في مقدرات الوطن والشعب،
بل وزاد العز بن عبد السلام على ذلك لما رأى شطط الأمراء، المماليك خصوصا، واستئثارهم بالثروة دون الناس بأن طالب ببيعهم ودفع ثمنهم لبيت مال المسلمين ولم ينفع عزله في رده عن رأيه، فقد كان علماء الدين والقضاة في أيامهم لا يبيعون ذمتهم ولا رأيهم أو فتاويهم بعرض من الدنيا، وترك مصر وخرج وراءه كل أهل مصر مجبرين السلطان على استرضائه وإنفاذ أمره ببيع الأمراء المماليك، وكان هذا درسا آخر أن لا ميزة للأمراء على شعوبهم بغير التقوى والعمل، فمن استقام وخدم استحق منصبه ومن زاغ وفرّط وتعالى وهانت أمانة المنصب في نفسه سيكون أهون على الناس الذين يقومون بدور المراقبة والمساءلة، وقد أخذ الغرب هذه العقلية والممارسات، فكانوا يسمون من يعمل في أيّ قطاع عام civil servant، أيّ خادما عاما، والتي ترجمت لاحقا إلى موظف في القطاع العام.
لن تصلح أحوالنا المادية التي بلغت في تردّيها أرقاما خيالية وما زالت مرشحة للزيادة والتصاعد بزيادة القروض ولا بزيادة الضرائب التي تثقل كاهل المواطن المثقل أصلا، ولكن قد يُصلح الحال أن يتوقف الفساد في القطاع العام وتعاد هيكلة القطاع وضبط سياسات الإنفاق فيه والتسوية في الالتزامات المادية للدولة مع نسبية الدخل بين الوزير والخفير، وبهذا لن يحس المواطن أنّه مسروق كلما أراد أن يدفع شيئا للدولة، بل ويحاول التهرب منه لمعرفته أنّ ماله لن ينفق في وجوهه المستحقة وأنّه من جماعة الذين يدفعون لأنّه لا ظهر له يسنده ويأتيه بإعفاء غير مستحق!
علّمنا التاريخ أنّه قد يعود لو وجد العاملون المخلصون الذين يعملون لاستعادة أمجاده، وعلّمنا أنّ الفضائل التي صلحت بها حياة المتقدمين قد تصلح كذلك لحياة من يلونهم، والمواطن مستعد أن يضع من جيبه ويساهم في إنقاذ وطنه ولكن عندما يرى القدوة والصدق من المسؤولين، ويراهم أول من يساهم ويدفع دون أن يعوّض مساهمته من منافذ أخرى غير شرعية.
لا بأس بدينار آخر، فنحن ندفع عن جنب وطرف أكثر مما نعرف ونطيق، لتسديد جزء من المديونية ندفعها محبة وكرامة وعن رضى لأجل عيون الوطن، ولكن يجب أن تسبق دنانير المسؤولين دنانير المواطنين حتى يسود العدل الذي يتحقق به الاستقرار والنهضة، وإن لم يتعلّم المسؤولون بطيب النصيحة فليتعلّموا من درس الشعوب التي أسقطت قريبا قططها السمان وكانوا أول من بِيع وضُحي بهم على مذبح الثورة والإصلاح
دنانيرهم، أو ملايينهم، قبل دنانيرنا ونحن مستعدون اليوم