إِنَّهَا آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، السِّرَاجُ الَّذِي أَضَاءَ فِي ظُلُمَاتِ الْقَصْرِ، آسِيَةُ الَّتِي غَزَا الإِيمَانُ قَلْبَهَا، وَمَلَكَ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، آسِيَةُ الَّتِي تَعِيشُ فِي ظِلِّ أَعْظَمِ حُكَّامِ الأَرْضِ وَأَقْوَاهُمْ وَأَطْغَاهُمْ، وَالَّذِي قَالَ لِقَوْمِهِ بَعْدَمَا نَادَاهُمْ وَجَمَعَهُمْ: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)[النازعات: 24]؛ أَيْ: لاَ رَبَّ لَكُمْ فَوْقِي، وَقَالَ -تَعَالَى- عَنْهُ: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)[القصص: 38].
وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُخِفْهَا جَبَرُوتُهُ وَعَظَمَتُهُ، وَلَمْ تَغُرَّهَا هِذِهِ الْحَيَاةُ الْمُنَعَّمَةُ، وَإِنَّمَا فَضَّلَتْ رِضَا اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى كُلِّ مُتَعِ الدُّنْيَا وَزَخَارِفِهَا، فَآمَنَتْ بِنَبِيِّ اللهِ مُوسَى -عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-، وَصَبَرَتْ عَلَى مَا جَاءَهَا مِنَ التَّعْذِيبِ، وَاخْتَارَتْ طَرِيقَ الْحَقِّ بِرَغْمِ تَكْلِفَتِهِ الْجَسِيمَةِ؛ حَيْثُ نَالَتْ عَذَابًا شَدِيدًا مِنْ فِرْعَوْنَ.
فَكَانَتْ أُنْمُوذَجًا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ؛ حَيْثُ لَمْ يَضُرَّهَا كُفْرُ فِرْعَوْنَ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ طُغْيَانٍ وَتَجَبُّرٍ، وَلَمْ تَغُرَّهَا مَفَاتِنُ الدُّنْيَا، بَلْ كَانَتْ تَنْظُرُ إِلَى رِضَا اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَأَنْ يَرْزُقَهَا جِوَارَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ دَارَهَا فِي الْجَنَّةِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)؛ فَجِوَارُ اللهِ أَعْظَمُ مِمَّا سِوَاهُ، وَمَنْزِلَتُهُ -وَهِيَ الْجَنَّةُ- أَعْظَمُ مَا طَلَبَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ رَبِّهِمْ، فَهِيَ تَطْمَعُ فِي جِوَارِ اللهِ قَبْلَ طَمَعِهَا فِي الْقُصُورِ.