قالت عائشةُ - رضي الله عنها -: فأخذتُها فجذَبتُها، فأخبَرتُها بما يُريدُ
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يتحرَّجُ بأن يُشعِرَ زُوَّارَه والمُستأنِسِين
بمجلِسِه بأنهم قد طالَ جُلُوسُهم عنده، وحديثُهم في بيتِه، فأنزلَ الله
- تبارك وتعالى -:
{ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي
النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ }
[الأحزاب: 53].
ومرَّ - صلى الله عليه وسلم - على رجُلٍ وهو يُعاتِبُ أخاه في الحياء
يقول: إنَّك لتَستَحيِي! حتى كأنه يقولُ: قد أضَرَّ بك!
أي: الحياء، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
( دَعْهُ فإن الحياءَ مِن الإيمان )؛
رواه البخاري.
فلذا كان الصحابةُ - رضي الله عنهم وأرضاهم - يُعزِّزُون في نفوسِ
أبنائِهم خُلُقَ الحياء، ويُربُّونَهم عليه، كما ربَّاهم رسولُ الله –
صلى الله عليه وسلم - على ذلك.
فهذا عبدُ الله بن عُمر - رضي الله عنهما - كان غُلامًا في مجلِسِ
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولُ: إن رسولَ الله –
صلى الله عليه وسلم - قال:
( إنَّ مِن الشجَر شجرةً لا يسقُطُ ورَقُها، وهي مثَلُ المُسلم،
حدِّثُونِي ما هي؟ )،
فوقَعَ الناسُ في شجَرِ البادِية، ووقعَ في نفسِي أنها النَّخلَة.
قال عبدُ الله: فاستَحيَيتُ، فقالُوا: يا رسولَ الله! أخبِرنا بها، فقال:
(هي النَّخلةُ )؛
رواه البخاري ومسلم.
والحياءُ فوقَ ذلك كلِّه هو صِفةٌ للربِّ - جلَّ جلالُه، وتقدَّسَت أسماؤُه -،
وحياءُ الربِّ - تبارك وتعالى - حياءُ جُودٍ وكرمٍ، وبِرٍّ وجلالٍ؛
فإنه - سبحانه - حيِيٌّ كريمٌ يستَحيِي مِن عبدِه إذا رفعَ إليه يدَيه
أن يرُدَّهما صِفرًا خائبتَين، ويستَحيِي أن يُعذِّبَ ذا شَيبةٍ شابَت في الإسلام.
وفي الأثر: يقولُ الربُّ - جلَّ جلالُه -:
( ما أنصَفَني عبدِي! يدعُوني فأستَحيِي أن أرُدَّه، ويعصِينِي ولا
يستَحيِي مِنِّي ).
فالمُسلمُ الصادِقُ - يا عباد الله - يستَحِي مِن نظر الخالِقِ إليه؛
فلا يتأخَّرُ في طاعةٍ، ولا ينسَى شُكرَ نعمةٍ، ولا يراهُ حيثُ نهاه،
ولا يفتقِدُه حيث أمرَه؛ فالله - جلَّ جلالُه، وتقدَّسَت أسماؤُه – أحقُّ
أن يُستحيَى مِنه، وبذلك أوصَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه.
ففي معجم الطبرانيِّ :
أن رجُلًا قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أوصِنِي، قال:
( أُوصِيكَ أن تَستَحيِيَ مِن الله كما تستَحِي رجُلًا صالِحًا مِن قومِك ).
وفي جامعِ الترمذي بسندٍ حسنٍ:
عن عبد الله بن مسعُودٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله –
صلى الله عليه وسلم -:
( استَحيُوا مِن الله حقَّ الحياء ).
قال: قُلنا: يا رسولَ الله! إنا نستَحيِي والحمدُ لله، قال:
( ليس ذاك، ولكنَّ الاستِحياءَ مِن الله حقَّ الحياء: أن تحفَظَ الرأسَ
وما وعَى، والبطنَ وما حوَى، ولتذكُر الموتَ والبِلَى، ومَن أرادَ
الآخرةَ تركَ زينةَ الدنيا، فمَن فعلَ ذلك فقد استَحيَى مِن الله حقَّ الحياء ).
فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ العظيمِ أمورًا أربعةً
فيها جِماعُ الخيرِ كلِّه: