وهذا انتِصارٌ عظيمٌ للمُسلم على هواه وشهوَتِه، وتفوُّقٌ كبيرٌ على نفسِه،
وهو بذلك يُهيِّئُ نفسَه لتحمُّل المشاقِّ والقِيام بالمهامِّ الجِسام؛
مِن جهادٍ، وبذلٍ، وتضحِيةٍ، وإقدامٍ.
ولذلك لما أرادَ طالُوتُ - عليه السلام - أن يُقاتِلَ أعداءَه،
ابتلَى اللهُ قومَه بنهَرٍ، وقال لهم طالُوت:
{ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ
غُرْفَةً بِيَدِهِ }
[البقرة: 249]،
فنجَحَ أهلُ الصبر والقوة، وفازَ منهم مَن غلَبَ هواه، وقهَرَ نفسَه،
وتخلَّفَ عن مُتابعتِه عبَدَةُ الشَّهوات، المقهُورُون تحت سُلطان طبائِعِهم،
والمأسُورون في سِجن هواه.
أيها الإخوة:
إن العقيدةَ الصحيحة زادٌ لا ينفَد، ومَعينٌ لا ينضَب للنشاط الموصُول،
والحماسة المدخُورة، واحتِمال الصِّعاب، ومُواجهة الشدائِد. وطبيعةُ
الإيمان إذا تغلغَلَ واستمكَنَ في النفوسِ أنه يُضفِي على صاحبِهِ قُوةً
تنطَبِعُ في سُلوكِه كلِّه، فإذا تكلَّمَ كانَ واثِقًا مِن قولِه، وإذا اشتغلَ كان
راسِخًا في عملِه، وإذا اتَّجَه كان واضِحًا في هَدَفِه.
والمُؤمنُ الحقُّ لا يكتَرِثُ بأمرٍ ليس له مِن دينِ الله سَداد، ولا يستَسلِمُ
لهواه، ولا يذِلُّ لغَيرِ الله، ولا يُستعبَدُ لمخلُوقٍ مثلِه، ولا يُسترَقُّ
لشهَواتِه وملذَّاتِه.
وهذا الشهرُ - عباد الله - هو شهرُ القوة والعزيمَة، والتضحِية والانتِصارات؛
فلعلَّكم تذكُرون ولا يغِيبُ عنكم ما جرَى للمُسلمين في معركة بدرٍ؛ حيث
حقَّقَ المُسلمون أروعَ الأمثِلة في البُطُولة والفِداء، فالمُسلمون الثلاثمائة
الذين واجَهُوا ألفًا مِن المُشركين أحرزُوا أولَ انتِصارٍ للأمة المُسلمة،
فقد نزلُوا ساحةَ المعركة بقوةٍ إيمانيَّةٍ كبيرةٍ،
وأمَدَّهم ربُّهم بالملائِكة لينصُرَهم على عدوِّهم.
وانجَلَت المعركةُ بين الحقِّ والباطل، بين الفِئة المُؤمنة والكثرة الكافِرة،
انجَلَت عن نصرٍ كبيرٍ للمُسلمين؛ إذ قتلُوا سبعين مِن المُشرِكين وأسَرُوا
سبعين، ولم يُقتَل مِن المُسلمين سوَى أربعة عشر رجُلًا، وسُمِّيَت هذه
الغزوة بـ يوم الفُرقان ، كما ذُكِر ذلك في القرآن.