إن المرءَ العاقلَ هو ذلكم الذي يستحضِرُ على الدوام عدمَ كمال الحياة
التي يعيشُ فيها الناس، ويستحضِرُ على الدوام أيضًا عدمَ كمال الناس أنفسهم،
وأن النقصَ يعتريها ويعتريهم، وأن من سرَّه شيءٌ ربما ساءَته أشياء،
وأن لكلٍّ زلَّةً وهناةٍ فمن ذا الذي تُرضَى سجاياهُ كلُّها ؟! ومن ذا الذي ما ساءَ قطُّ ؟!
لذا فإن لكل نفسٍ حيَّةٍ طبعًا أصيلاً لم يطرَأ عليه ما يُغيِّره،
فكان لزامًا أن تتفاوَت النفوسُ في درجات الثبات والهدوء،
والأناةِ والصفاء أمام المُثيرات التي تؤُزُّ ضِعاف النفوسِ إلى الحُمق والعجَلة أزًّا،
فتفصِل بين ثقة المرء بنفسه وبين أناتِِه وحلمه، وبين أناتِه وحلمِه مع غيره،
بوسيلةٍ يجهلُها كثيرٌ من الناس، قد حصرَها حكماءُ النفوس في خصلة التغافُل أو التغابِي
عن المُكدِّرات في الحياة العامَّة والخاصَّة بين الشعوب والسَّاسة،
والأسرة وأفراد المُجتمع الواحد .
نعم، إنه التغافُل من باب القوة لا الضعف، والحِلم لا العَجز، والصبر لا الخَوَر؛
لأن اتِّساع الأذن لكل مسموع، واتِّساع العين لكل مرئيٍّ كفيلان في تكدير الصفو،
وتفريق المُجتمع، ونصب خِيام سوء الظنِّ في القلب وسط عواصِف الشُّكوك
والإحَن والشَّحناء والبغضاء .
فلا مناصَ حينئذٍ من التغافُل والتغابِي أحيانًا، حتى تسير القافلةُ بأمانٍ؛
لأن المنزلَ بعيدٌ لا يحتمل الالتِفات أثناء المسير .
فإن كثرة الالتِفات من مُعوِّقات الوصول السريع،
ومن أخذ بكل زلَّةٍ على كل أحد فلن يبقَى له في الدنيا زوجةٌ، ولا أخٌ،
ولا صديقٌ، ولا جارٌ؛ إذ لا يشكُّ عاقلٌ البتَّة أن التغافُل أدبٌ جميلٌ
يحملُ صاحبَه على تعمُّد الغفلة والتغابِي، مع علمِه بما هو مُتغافلٌ عنه جلبًا
لمصلحةٍ راجحةٍ، أو درءً لمفسدةٍ راجحةٍ أيضًا.
وهو خُلقٌ نبويٌّ كريمٌ، فقد قال الحسنُ البصريُّ - رحمه الله -:
[ ما استقصَى نبيٌّ قطُّ ]
قال الله عن نبيِّه حين أخطأت بعضُ أزواجه :
{ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ
وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ }
[ التحريم: 3 ].