{ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ }
[الأحقاف: 35].
فنُوحٌ - عليه السلام - بقِيَ في قومِه يدعُوهم ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا،
ودعاهم ليلًا ونهارًا فلم يزِدهم ذلك إلا فِرارًا، وما غيَّرَ ولا بدَّل.
ومُوسَى - عليه السلام - بعثَه الله إلى فِرعون داعِيًا، وكان مِن أمرِه
ما كان، ثم لقِيَ مِن بنِي إسرائيل ما لقِي، وكان نبيُّنا مُحمدٌ - صلى الله
عليه وسلم - إذا أذاه قومُه قال:
( يرحَمُ اللهُ مُوسَى، لقد أُوذِيَ بأكثَرَ مِن هذا فصَبَر ).
فكأنَّ السُّورةَ تقولُ لنبيِّنا مُحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -:
اصبِر كما صبَرَ نُوحٌ ومُوسَى، ولا تكُن كصاحِبِ الحُوتِ، وهي أيضًا تقولُ لأتباعِ النبيِّ –
صلى الله عليه وسلم -: اصبِرُوا كما صبَرَ نُوحٌ ومُوسَى، ولا تيأسُوا
ولا تُغادِرُوا مواقِعَكم.
ومِن لطيفِ العلمِ ومُلَحِه: أنَّ لكل واحدٍ مِن هؤلاء الرُّسُل الثلاثة خبَرًا مع الماء؛
فنُوحٌ أغرَقَ الله قومَه بماءٍ مُنهمِرٍ، وفجَّر الأرضَ عيونًا فالتَقَى
الماءُ على أمرٍ قد قُدِر، وأنجاه الله ومَن معَه في الفُلك المشحُون على
ذاتِ ألواحٍ ودُسُر.
ومُوسَى - عليه السلام - فلَقَ الله له البحرَ، وجاوَزَ ببني إسرائيل،
ثم غرَّقَ الله فِرعونَ وقومَه.
ويُونسُ - عليه السلام - ركِبَ البحرَ في الفُلك المشحُون، وكان في
بطنِ الحُوتِ في ظُلمةِ البحر في ظُلُماتٍ ثلاثٍ.
أيها المُؤمنون:
ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الرَّحيمُ الشَّفيقُ يدعُو قومَه،
ويحرِصُ على هِدايتِهم، حتى لتكادُ نفسُه تذهَبُ عليهم حسرات، فيقولُ
الله لهم:
{ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ }
[الحجر: 88]،
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ }
[الشعراء: 3]،
ويقولُ له:
{ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ
أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا
تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }
[الأنعام: 35].
ويقولُ الله في سُورة يُونس:
{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ
حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ }
[يونس: 99، 100].