{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
[البقرة: 200 - 202].
وفي هذا إيماءٌ بيِّنٌ، وإيضاحٌ جلِيٌّ لتأكُّد ذِكرِ الله تعالى عقِبَ الفراغِ مِن
الطاعاتِ كلِّها، ومِن المناسِكِ خاصَّةً؛ شُكرًا لله تعالى، واعتِرافًا بنِعمِه السَّابِغة،
وآلائِه الجَزِيلَة، وفِعالِه الجَمِيلَة؛ حيث وفَّقَ عبادَه إلى بلوغِ
محابِّه ومراضِيه، وأسعَدَهم بطاعتِه، ومنَّ عليهم بإتمامِ ذلك والفراغِ
مِنه على أكملِ أحوالِ الحاجِّ وأجمَلِها، وأبَرِّها وأتقاها.
في الآية الكريمة أيضًا:
تحذيرٌ وتوجيهٌ؛ أما التحذيرُ: فمِن دُعاء الحُجَّاج ربَّهم أن يُؤتِيَهم مِن
حُظوظِ الدُّنيا ما ينصرِفُون إليه، ويقتَصِرُون عليه، نائِين بأنفسِهم عما
هو أعظمُ وأكمل، وأبقَى وأجمَل مِن المنازلِ والمقاماتِ في الدار الآخرة
دار الخُلد، ودار المُتَّقين.
وأما التوجيه:
فهو إلى دُعائِه - سبحانه - أن يُؤتِيَهم في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً،
وأن يقِيَهم عذابَ النَّار؛ لأنَّ هذه الدعوةَ القُرآنيَّةَ الطيبةَ المُباركةَ جمعَت
كلَّ خيرٍ في الدنيا والآخرة، وصرَفَت كلَّ شرٍّ.
فإنَّ الحسنةَ في الدنيا - كما قال الإمامُ ابن كثيرٍ - رحمه الله - تشمَلُ كلَّ مطلُوبٍ
دُنيويٍّ؛ مِن عافيةٍ، ودارٍ رَحبةٍ، وزوجةٍ صالِحةٍ، ورِزقٍ واسِعٍ،
وعلمٍ نافعٍ، وعملٍ صالِحٍ، ومركبٍ هنِيئٍ، وثناءٍ جميلٍ.
وأما الحسنةُ في الآخرة فأعلاها: النَّظرُ إلى وجهِ الربِّ الكريمِ الرحمن،
ودخولُ جنَّات النَّعيم والرِّضوان، والأمنُ مِن الفزَع الأكبَر في العرَصَات،
وتيسيرُ الحسابِ، وغيرُ ذلك مِن أمور الآخرة الصالِحة التي يمُنُّ الله
بها على أهل جنَّته ودارِ كرامتِه.
وأما النَّجاةُ مِن النَّار فهو يقتَضِي تيسيرَ أسبابِها في الدنيا؛ مِن اجتِنابِ
المحارِم والآثام، وتركِ الشُّبُهات والحرام، ولهذا لم يكُن عجَبًا أن كانت
هذه الدعوة الطيبة المُبارَكة أكثَر ما كان يدعُو به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -،
كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمامُ أحمدُ في مسنده بإسنادٍ صحيحٍ،
عن عبد العزيز بن سُهَيل أنَّه قال: سألَ قتادةُ أنسًا عن أكثر ما كان
يدعُو به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يقولُ:
( اللهم ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذابَ النَّار ).