{ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ }
[ النساء: 131 ].
التقوَى رأسُ الأمر كلِّه؛ فهي السائِقُ للخير، والحاجِزُ عن المحارِم،
وأعجَزُ الناسِ مَن أتبَعَ نفسَه هواهَا وتمنَّى على الله الأمانِي،
وأكيَسُهم مَن دانَ نفسَه وعمِلَ لما بعدَ الموتِ،
{ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا
وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ }
[ غافر: 39، 40 ].
أيها المسلمون:
لما أرادَ الله - عزَّ وجل - أن يبلُوا المُؤمنين ومَن الْتَحَقَ برِكابِ الإسلام،
وشاءَ أن يمتَحِنَ فيهم بَردَ اليقينِ وصِدقَ الإيمان، فاوَتَ بين أحوالِه، وداوَلَ بين أيامِه،
فما بين علُوٍّ وانكِسار، وعزٍّ وانحِسار. فمَن أسلمَ زمنَ الرَّخاء،
فإن أزمِنة الشَّدائِد كفِيلةٌ بكَشفِ حقيقةِ تديُّنِه،
ومَن استقامَ تمشِّيًا مع المُجتمعِ المُحيطِ به خذَلَتْه المُتغيِّرات.
ولو دامَ أمرُ الإسلام رخاءً وانتِصارًا للحِقَ به مَن يطرَبُ للرَّخاء ويعبُدُ النَّصر،
ولو لم يعبُدِ الله، لذا فإن أكثر ما تشرئِبُّ نفوسُ النِّفاق،
وتتخالَفُ أقدامُ المُنافقِين في أزمِنة العُسرِ ومواقِفِ الخَوف والضَّعف،
وهي مشاهِدُ تكرَّرَت في مسيرات الأنبِياء وتوارِيخِ أُممهم.
فإن أقوامًا من أتباعِ مُوسَى - عليه السلام - وطائفةٍ من جيشِه لما قال لهم نبيُّهم:
{ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ }
[ المائدة: 21 ]
ردُّوا عليه بأنَّ فيها قومًا جبَّارِين، وأنهم لن يدخُلُوها أبدًا ما دامُوا فيها،
واختَصَروا حِكايةَ تديُّنهم بقولِهم:
{ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }
[ المائدة: 24 ].
وتكرَّرَ هذا المشهَدُ مِرارًا مع نبيِّنا محمدٍ - عليه الصلاة والسلام -؛
ففي سُورة الأحزابِ يسُوقُ اللهُ مثلًا لتساقُطِ الهَلكَى، إذ يقول - سبحانه -:
{ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا }
[ الأحزاب: 10- 12 ].
فكلما كان الحقُّ في حالٍ أصعَب كان الفِرارُ منه أسرَع، والتحلُّل من تكالِيفِه أوجَعُ وأفجَعُ.
وحين ضعُفَ الحالُ بالمُسلمين رأَيتَ كثرةَ المُتحلِّلين من بعضِ تكالِيفِ الإسلام،
أو مَن يعُودُ على بعضِ أحكام الشريعة بالتهذيبِ أو التأويلِ،
بزَعم مُواكَبَةِ العصرِ والاتِّساقِ مع العالَم وحضارَتِه،
ونسِيَ أولئك أو تناسَوا أن عُمر الإسلام يفُوقُ ألفًا وأربعمائةِ عامٍ كان في أكثر
من ألفٍ منها هو المُسيطِر والمُتمكِّن سُلطانًا وحضارةً، وعِزًّا وغضَارة،
كان مخطُوبَ الوُدِّ، مُهابَ الجَنابِ.
أكثر من ألفِ عامٍ رفعَ الله به الأمِّيَّةَ عن أتباعِه إلى الرِّيادة في العلمِ والحضارةِ،
ومن التشرذُمِ إلى الاجتِماع، ومن الخَوفِ إلى الأمنِ، ومن الفقرِ إلى الغِنَى،
ومن الضَّيعَة إلى التمكِين، ومن التَّبَعِيَّة إلى القِيادة،
{ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا }
[ آل عمران: 103 ]
وبعدها بآياتٍ:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }
[ آل عمران: 110 ].