أنَّ الناسَ مع ألسِنتهم ثلاثةُ أصنافٍ:
حكيمٌ، ونَزِقٌ، وجاهِلٌ.
فالحكيمُ يقُودُ عقلُه لِسانَه، فله عقلٌ حاضِر، ودينٌ زاجِر، يعرِفُ مواضِع
الإكرام باللِّسان، ومواضِع الإهانة به، يعلَمُ الكلامَ الذي به يندَم، والذي
به يفرَح، وهو على ردِّ ما لم يقُل أقدَرُ مِنه على ردِّ ما قال. فمِثلُه يعلَمُ
أنَّه إذا تكلَّم بالكلِمَةِ ملَكَتْه، وإن لم يتكلَّم بها ملَكَها، وربما صارَ حكيمًا
بالنُّطقِ تارةً، وبالصمتِ تاراتٍ أخرى، مع إدراكِه بأن يقولَ الناسُ:
ليتَه تكلَّم، خيرٌ مِن أن يقولُوا: ليتَه سكَت.
وأما النَّزِقُ فإنما يقُودُه طَيشٌ ثائِر، وصَلَفٌ عاثِر، وضِيقُ عطَن مُستحكِم،
فلا معنَى للأناة عنده، وليس لديه حدودٌ ولا خطوطٌ حمراءُ في الألفاظ،
فهو يغرِفُ منها ما يشاء، ويُطلِقُ حبلَها على الغارِبِ بلا زِمامٍ ولا خِطامٍ،
دون استِحضارٍ لدلالاتِها وما تكونُ به مآلاتُها؛ حيث تختلِطُ عنده ألفاظُ السِّباب،
وألفاظُ المَدِيح، وألفاظُ الأُلفة، وألفاظُ النُّفرَة؛ إذ لا مِعيارَ لها
عنده يحكُمُها، وإنما يُدبِّرُها غضَبُه، ويُوجِّهُها نَزَقُه، ويُهيِّجُها ضِيقُ
عطَنِه، فلا يُفيقُ إلا وقد طارَت بكلامِه الرُّكبان، ولاتَ حين ندَمٍ واعتِذارٍ.
هو وأمثالُه يصدُقُ فيهم ما جاء في الحديثِ الحسَنِ مرفوعًا:
( ولا تكلَّم بكَلامٍ تعتَذِرُ مِنه غدًا )؛
رواه أحمد وابن ماجه.